أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأطيعوه حبًا وإجلالاً وطمعًا في ثوابه، وخوفـًا من عقابه، فهو الإله الذي تؤلهه القلوب وتعبده محبة وإجلالاً وتعظيمًا، وإذا كانت القلوب قد جبلت على حب من أحسن إليها فإن كل إحسان وكل نعمة فمصدر ذلك منه سبحانه:
وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ [النحل:53]. فيجب على العبد أن يحبه غاية الحب ويعبده وحده لا شريك له، ومحبة العبد لربه لها علامات تدل عليها، قال تعالى:
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. فعلامة محبة العبد لله أن يكون متبعًا لرسوله يفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى أما من ادعى أنه يحب الله وهو مخالف لرسوله فإنه كاذب في دعواه، قال بعض السلف: ادّعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة:
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى وقوله تعالى:
يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ إشارة إلى ثمرة محبة الله وفائدتها، وهي أن من أحب الله أحبه الله وغفر له ذنوبه، قال تعالى:
ءيٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]. فذكر في هذه الآية الكريمة أن محبة العبد لربه لها أربع علامات:-
الأولى: الذلة على المؤمنين. بمعنى أن يكون رحيمًا بهم عاطفـًا عليهم محسنًا إليهم .
الثانية: العزة على الكافرين. بمعنى أنه يكون شديدًا عليهم مبغضًا لهم كما قال الله تعالى:
أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ [الفتح:29].
الثالثة: أن يكون مجاهدًا في سبيل الله بالنفس والمال واللسان والقلب .
الرابعة: أن يكون لا تأخذه في الله لومة لائم، بحيث لا يؤثر فيه لوم الناس له على ما يبذله من الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا يمنعه لوم الناس له عن الاستمرار في ذلك.
ومن علامة صدق العبد في محبته لله أن يُقدم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه، وما يميل إليه هواه وطبعه من المال والقرابة والوطن، قال تعالى:
قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوٰنُكُمْ وَأَزْوٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ [التوبة:24]. أمر الله نبيه أن يتوعد من قدم محبة هذه الثمانية: أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثرها - أو بعضها - على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها كالجهاد والهجرة ونحو ذلك.
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: أي إن كانت هذه الأشياء
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه، ولهذا آثر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما يحبه الله على ما يحبونه، فقدموا أنفسهم وأموالهم للجهاد والإنفاق في سبيله مع ما في ذلك من القتل ونفاد الأموال. وترك المهاجرين ديارهم وأموالهم وأولادهم وانتقلوا من وطنهم الأصلي إلى دار الهجرة يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله، وقال الله فيهم:
أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ [الحشر:8].فقارنوا يا عـباد الله بين حـال أكثرنا اليوم وحـال هؤلاء الصادقين، فالكثير منا اليوم يقدم هوى نفسه على طاعة ربه، فإذا دعي إلى الصلاة في المسجد آثر النوم والراحة أو اللهو واللعب ولم يخرج إلى الصلاة ولم يجب داعي الله. وإنما يجيب داعي الشيطان والهوى والنفس، وإذا دعي إلى الصلاة وهو في متجره أو عمله آثر طلب الدنيا على طلب الآخرة، فأقبل على البيع والشراء بأداء العمل الدنيوي ولم يذهب إلى الصلاة وعصى أمر ربه في قوله تعالى:
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ [الجمعة:9]. وفي قوله تعالى:
فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ [النور:36،37].
والتاجر الذي يأخذ المال بطرق محرمة كالربا والغش والكذب قد آثر حب المال على حب الله، والبخيل الذي يمنع الحقوق الواجبة في ماله كالزكاة والإنفاق في سبيل الله قد آثر حب المال على حب الله ونسي قوله تعالى:
وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].
والوالد حينما يؤمر بإلزام أولاده بالصلاة وإحضارهم إلى المسجد وإنقاذهم من النار كما قال الله تعالى:
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقوله
:
((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر))[1]، فإنه لا يبالي بأمر الله ورسوله ويترك أولاده في بيته لا يشهدون صلاة ولا يعرفون مسجدًا،لأنه آثر حب أولاده على محبة الله فهو لا يريد أن يضربهم أو يغضبهم ولو عصوا ربهم وتركوا واجبهم، فصارت محبة الأولاد أشد عنده من محبة الله، واتقاء غضب الأولاد أهم في نظره من اتقاء غضب الله، وإلا لو كان الأمر بالعكس لقدم أمر الله على محبتهم. وهذا خليل الله إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – لما أمره الله بذبح ابنه الذي وهبه الله له بعد كبر سِنّه بادر إلى امتثال أمر ربه وتقديم محبة الله على محبة هذا الابن. ولما ظهرت نيته وخالص محبته لربه نسخ الله الأمر بذبح الابن وفداه بذبح عظيم، وبشره بابن آخر هو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كل هذا ببركة طاعة الله وتقديم محبته على محبة غيره.
عباد الله: وكما تجب محبة الله تعالى تجب محبة رسوله
وهي تابعة لمحبة الله ولازمة لها، عن أنس بن مالك
أن النبي
قال:
((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) أخرجاه في (الصحيحين)[2]. وروى البخاري عن عمر بن الخطاب
: أنه قال للرسول
: لأنت يا رسول أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي
:
((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)). فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال النبي : ((الآن يا عمر))[3]. وذلك لأن الرسول
هو الذي دلنا على الخير وبين لنا طريق النجاة وسبيل السعادة وحذرنا من الشر والهلاك وبسببه اهتدينا، ومحبته
تقتضي متابعته وطاعته، فمن ادعى محبته بدون متابعته أو ادعى محبته ولم يتمسك بسنته ولم يترك البدع المخالفة لسنته، فهو كاذب في دعوى محبته لرسول الله
لأن محبته تقتضي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وقد قال الله تعالى:
مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ [النساء:80]، فالذي يدعي محبته ويخالف سنته ويعمل بالبدع والخرافات هو كاذب في دعواه.
ومن علامة محبة العبد لله ورسوله: أن يُحب من يحبهم الله ورسوله، فالله يحب المحسنين المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين، والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وما يحبه الله من أعمالهم وأخلاقهم، وفي (الصحيحين)، عن أنس
قال: قال رسول الله
:
((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))[4]، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال:
(من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان ولو كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أنفسهم شيئـًا) رواه ابن جرير. فمن أحب الله تعالى أحب فيه ووالى أولياءه وعادى أعداءه، فمن كان كذلك تولاه الله. ومن لم يكن كذلك فإن الله لا يتولاه، وإذا لم يتوله الله تولاه أعداؤه، قال الله تعالى:
ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [البقرة:257].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…